في وقت أضحى فيه التراث والتاريخ مورداً اقتصادياً تسعى الأمم المتقدمة إلى استثماره ليكون رافداً مهماً من الإيرادات التي تؤسِّس عليها الدول نهضتها وركائز مدنيتها، نرى أنَّ العناية بالتاريخ والتوثيق والتراث تجاوزت مرحلة الترف إلى الضرورة التي لا بدَّ منها في اكتمال البناء الحضاري الذي عمل على تأسيسه وبنائه شيوخنا الكرام، خلال فترة وجيزة قياساً بأعمار الأمم والدول. فلو أردنا أن نؤرِّخَ فقط منذ بدء الاتحاد عام 1971 إلى اليوم، فإننا سنعجز عن التأريخ لما لدينا من أحداث وإنجازات كثيرة وعظيمة تستوجب توثيقها في سجلات.
قبل الرجوع إلى ما قبل عام 1971، وإن كان تاريخ هذه الأرض ضارباً في القدم؛ حيث يعود إلى أكثر من 5000 سنة خلت، يجب أن نحقِّقَ تاريخنا منذ عام 1971 إلى اليوم. وعندما نقول: إنَّ التاريخ والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، فإننا لسنا نعني من ذلك المعنى المجازي فحسب، بل إننا نجدُ أنَّ الكثيرَ من دول العالم تضع على أحد وجهي عملتها مظهراً من مظاهر تاريخها، وعلى الوجه الآخر معلماً من معالم نهضتها الاقتصادية الرائدة.
السياحية التاريخية
إنَّ العناية بتوثيق وتحقيق هذا التاريخ لا ريب سيعود بالنفع على اقتصاد الدولة ويقوِّي بنيانها؛ فبناء تاريخي وكتاب أو وثيقة لهما أهميتهما، وموجودات ومدخرات احتفظ بها الأبناء من آبائهم وأجدادهم... كل ذلك يمثِّلُ أساساً وركيزة لمتحف غني بالموجودات التي تؤسِّس لنا صناعة سياحية تاريخية تستقطب الزائرين لمشاهدتها والتعرُّف إليها، خاصة أنَّ البيئة التي تحتويها دول الإمارات العربية المتحدة غنية بالتنوع الذي يجعل من العناية بموجوداتها رافداً من روافد متحف تاريخي ثري بالمصادر، سواء في ذلك البيئة البحرية والجبلية والصحراوية التي تتلوَّن بها مدن وحواضر دولتنا.
ولا أدل على ذلك من الخطوة الجميلة التي اتخذتها دبي في تأسيسها لمتاحفها التاريخية الجاذبة في مناطقها القديمة، وتشجيعها للقطاع الخاص أن يستثمرَ في صناعة المتاحف، كمتحف القهوة المتربع في حي الفهيدي التاريخي ، بمنطقة بر دبي، والذي يعدُّ أحد أشهر المتاحف في الإمارة، وهو بمنزلة سفارة دولية لعشّاق القهوة من مختلف أنحاء العالم.
متحف القهوة في دبي
ويقدِّم معلومات عن طرق تحميص وتحضير هذا المشروب منذ اكتشافه للمرة الأولى في إثيوبيا، مع التركيز على ممارسات وعادات الشرق الأوسط، إضافة إلى عرض أدوات القهوة المستخدمة في تحضيرها، وهي تنتمي إلى 40 دولة أخرى من حقب زمنية مختلفة، والأدوات التقليدية التي استخدمها الأجداد في صناعة القهوة العربية التي ارتبطت بالثقافة والتقاليد العربية عموماً والإماراتية على وجه الخصوص.
تاريخ المؤسَّسات
كذلك لدينا شركات ومؤسَّسات ووزارات تحتاج كلها إلى توثيق، وهي بمنزلة صروح اقتصادية وحكومية بارزة، ولديها تاريخ غزير قد يكون القائمون عليها الآن لا يهتمون بتوثيقه وإخراجه للعلن بسبب انشغالهم بمراحل التطوير والتحديث التي تملأ أوقاتهم، غير أنَّ قلة من المؤرخين والمحققين والناشرين يهتمون بنشر تاريخ هذه الصروح الاقتصادية والحكومية، وتجميع مدخراتها، مما يمكن أن يمثِّلَ متحفاً رائداً لتلك المؤسَّسات، ورافداً من روافد التنوع الاقتصادي المنشود. وهذا يجب أن تضطلع به أرشيفاتنا الوطنية، والباحثون المتخصصون الذين ينقِّبون عن التاريخ ويعلمون قدر كل وثيقة وأهميتها في استرجاع المراحل الأولى للتأسيس. ففضلاً عن أهميتها الاقتصادية، فإنها أيضاً تضع الأجيال القادمة أمام صورة متكاملة الأركان لما بذله الأجداد في حياتهم ليؤسِّسوا لنا هذا الصرح العظيم.
حصن الفهيدي التاريخي
من هنا نعلم أنَّ التاريخ ليس مجرد كتابات وروايات نقرؤها ونكتبها، بل هو من ناحية، مخزون مملوء بالعبر والعظات المكتسبة من تجارب الأولين، ومفيد في التأهب والاستعداد لتقلبات الزمن، واستشراف المستقبل وحافز للنظر والمقارنات المهمة في حياة الدول والناس، هذه كلها من فوائد علم التاريخ، ولكن من جهة أخرى، علينا أن نلحظ الأهمية الاقتصادية للتاريخ، والدول الرائدة تعلم أنَّ العناصر التي تكوِّن التاريخ تعدُّ ثروة وطنية لها أهميتها الكبرى في البناء الحضاري والنهضوي.
دور مراكز التراث
دولتنا غنية بتاريخها، غنية بشيوخنا الكرام الذين لا يألون جهداً في الحفاظ على تاريخنا، فصاحب السمو الشيخ سلطان القاسمي، حفظه الله، له دورٌ كبيرٌ جداً في جمع تاريخ الإمارات، كذلك سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير شؤون الرئاسة، يولي اهتماماً كبيراً لدعم الأرشيف الوطني، وأيضاً سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي رئيس المجلس التنفيذي، يتضح اهتمامه بهذا الجانب المهم عبر مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث
متحف المستقبل في دبي
قلعة البثنة في الفجيرة أيقونة سياحية شاهدة على تاريخ 3 قرون
ساحة متحف دبي
لكن هذه المراكز تحتاج إلى المؤرخين الباحثين والمراجعين المحققين. ورغم أنَّ هذه المراكز أتاحت الوثائق على مواقعها الإلكترونية، كما فعلت المكتبة البريطانية ، لكن المقتنيات المتاحة هي في جلها وثائق ومخطوطات، تحتاج إلى من يفهم الخطوط المكتوبة بها، ولهذا أرجو من تلك المراكز أن يكون لها دور أكبر في تحقيق التراث وخدمة تاريخنا؛ كي يكون بحق من الروافد الكبيرة الأثر في النهضة الشاملة التي تسعى إليها دولة الإمارات العربية المتحدة.
جمال حويرب
المدير التنفيذي لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة