يتلعثم القلم، وتتوه الكلمات، وتتوارى المعاني، حزنًا وقد حاولت منذ الأمس أن أمسك القلم لأنعي عمي الحبيب سالم الخير، سالم الخطيب،سالم وسليم السيرة والسريرة والله حسيبه؛ فما طاوعني القلم، وما انصاعت لي كلمات، فالحزن عظيم، والفقد كبير، وما خلت يومًا أن أقف موقف الناعي لذلك الزاهد العابد – فيما نعلم والله حسيبه – عمي الحبيب الخطيب «سالم دويشر الدبوس الشراري» رحمه الله، راحل من دنيا الزوال التي كان يحذرنا منها، مترجلًا عن آخر عتبات دنيانا الفانية إلى أول عتبات الآخرة والمستقر والمنزل.
وكأني أسمع نحيب محرابه وقد افتقد أصوات ذكره، وحزن مسجدهومصلاه وقد افتقدوا سجود جبهته لله على أرضيتهم؛ كما افتقده أهله وعشيرته؛ وكل أهل النبك أهله. وما كنت أحسبني أقف موقف المترجي للكلمات أن تُكتب، وللمداد أن يسطر رثاءً لعمي الحبيب، إنه أمر عصي على النفس، صعب على المداد، فالفقد كبير، والحزن عظيم، وألم الفقد موجع، ودمع القلب يسبق دمع العين، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
لا أدري من أي الجوانب آتيه، وهنا يقع مأزق الكلمات، وورطة التعبير حيث يتسع الحزن، ويعجز البيان أن يسطر عن مناقبه؛ فهي كثيرة والله حسيبه، فقد كان إنسانًا مشمولًا بكثير من عظيم السجايا، ويرفل في كريم الخصال، وحقًا صدق القائل:
الموت نقاد على كفه جواهر يختار منها الجياد
فكما كان الاسم «سالم»، كان النعت والوصف سالمًا؛ فكما قالت العرب قديمًا «لكل له من اسمه نصيب»، ويكأنه – رحمه الله – كان سالمًا من كل نقيصة – فيما نعلم والله حسيبه – متصفًا بكل محمده، صاحب همة وعلم وخلق وتواضع، لم ألتق أحد التقاه أو عرفه؛ إلا ويثني عليه ويذكره بكل خير، كان – رحمه الله –بشوشًا إن تلقاه، ودودًا لو تعامله، متواضعًا إذ تجالسه، يحب الخير وهو أهله، ويفيض على من معه حنوًا، وأبوة، وعلمًا من كل باب. كان ذا حال مع ربه، يجتهد في الذكر والطاعة بهمة لا يجاريه فيها من هم أصغر منه بعشرات السنين، لو أردت الحديث عن مناقبه ما وفيته حقه، والله حسيبه.
وقد حملت ذاكرة أهل «النبك أبو قصر» من مواقفه الكثير مما لن ينسى له وعنه رحمه الله، فقد كان من أوائل من سكنوها، ولو أراد أن يحوز من الدنيا ما شاء لفعل، فقد كانت أراضيها متاحة لمن أراد أن يحوز منها، ولو فعل لكان الآن من أثرى الأثرياء، ولكنه كعادته يؤثر على نفسه، ويؤثر الباقية على الفانية، ولم يرض لنفسه إلا أن يكون في غمار الناس، وفي خدمتهم ونفعهم. ولن ينسى له الزمان أنه عند الانتهاء من بناء جامع النبك أبو قصر «جامع الشيخ / منوخ بن طارب ابن دعيجا»، لم يكن هناك ماء ليمد به المسجد لوضوء الناس، فما كان منه – رحمه الله – إلا أن أوصل الماء من بستان بيته الذي يبعد عن المسجد قرابة (400م)، مع ما في ذلك من كُلفة عمل التمديدات؛ فأمن الماء لوضوء مرتادي المسجد ورواده. واختير – رحمه الله – لعلمه ومكانته وورعه؛ ليكون أول خطيب رسمي لجامع «النبك أبو قصر»، كما كان أول موظف للبريد بـ «النبك أبو قصر»، أحب أهل النبك وأحبوه، وتفانى في نصحهم وبذل الخير لهم، وقد لمحت أثار أفعال الخير ونحن ندفنه، بادية في حزن على وجوه الناس، وبين حروف كلماتهم، وحقًا لا يبقى من الناس للناس إلا الذكرى الطيبة، وقد تركها بعده في مكان حط فيه، ومع كل شخص التقاه، وصدق الشاعر إذ يقول:
رحم الله فلان ... كان وكان وكان... لن تذكر إلا الأعمال
أعمارنا أعمالنا... وبها سمت أسماؤنا... نمضي وتبقى هاهنا…هاهنا آثارنا
كان – رحمه الله – كريمًا سخيًا، بيته مفتوح دومًا لعوائل البادية، فيضعون أبنائهم عنده مدة الدراسة، ويواصلون الترحل خلف إبلهم وأغنامهم؛ طلبًا للكلاءِ، وبحثًا عن الربيع، وهم آمنون على أولادهم، متأكدون من حسن رعايته لهم، كل هذا دون مقابل، رغم ما كان يعانيه أهل ذاك الزمان ماديًا، وصعوبة الحياة أيامها، إلا أنه كان لا يفتر عن رعايتهم، ويبذل دون كلل أو ملل أو ضجر، فكأنما فطر على بذل الخير ونشره رحمه الله.
كان له مع أهل بيته وأحفاده عادة كل يوم جمعة بعد الصلاة، يأتي بيته ومعه ما لذ من الحلويات يجلس بين أحفاده في بيته فيوزعها عليهم، وكانوا ينتظرونه كل جمعه -رحمه الله -.
وكان الناس يلتمسون منه الرقية؛ فيقرأ القرآن على من طلب منه القراءة، وكان يحتسب فيمن يخالف شرع الله، ببصيرة وحكمة ولين، فإن رأي أحدًا قد علق تميمة (ما يسمى بالحجاب) أو شيئًا في صدره يلتمس منه نفعًا أو ضرًا، يذكره بنهي النبي عن ذلك وقوله: “من علق تميمة فلا أتم لله له”، ويقول له هذا شرك وشعوذة والشفاء لا يلتمس إلا من الله.
كان – رحمه الله – ذا حال مع ربه، يحسن التعبد، فكان في رمضان، يحيه بالذكر والطاعة والقرآن، طوال حياته – فيما أعلم –إذا أقبل رمضان، ينشغل عن الدنيا ومن فيها بربه، فيعتكف عشره الأواخر في المسجد، ويجتهد في وعظ الناس بعد الصلوات، وحثهم على اغتنام نفحات الله في شهر رمضان، وفي سنواته الأخيرة رأيته – رحمه الله – يعتكف شهر رمضان بأكمله، ولا يخرج من مسجده إلا مع صلاة عيده
والله لقد تاهت مني الكلمات، وقد ظننتني أستطيع تسطيرها، ولكن الحزن كبير والفقد عظيم، والراحل حفر حبه في القلوب، ونقش مودته على الأفئدة بكريم خصاله وطيب فعاله، فاللهم إنه ضيفك وأنت الكريم اللهم أكرمه بكرمك، واشمله برحمتك، اللهم اجعله في الفردوس الأعلى مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.
اللهم أحسن فيه العزاء، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
خالد بن هزيل الدبوس الشراري