متابعات – إخبارية بوابة وطن :
«القصر البلدي» في العاصمة الفرنسية باريس يُعدّ الأكبر في أوروبا، ويقع في قلب تاريخ العاصمة وتاريخ فرنسا التي كانت شاهداً على تحولاتها وثوراتها منذ أواسط القرن السادس عشر.
القصر الحالي هو النسخة الثالثة للمبنى الذي شُيّد في المكان نفسه عام 1375. إلا أن الملك فرنسوا الأول أمر بهدمه وبناء قصر جدير بهذا الاسم، وكلف المهندس المعماري الإيطالي دومينيك دي كروتوني (بوكادور) برسم التصاميم التي استوحت بطبيعة الحال الطابع الإيطالي. إلا أن إنجاز المبنى استطال لعقود إذ انطلق في عام 1533، واستمر حتى عام 1628. وبعد قرنين من الزمن جرى تجديده وتجميله، وعهدت المهمة إلى اثنين من كبار فناني العصر هما الرسامان الشهيران أوجين دولاكروا وجان أوغوست إينغر. إلا أن اندلاع عامية باريس يوم 24 مايو (أيار)، عام 1871، أفضى إلى إحراق «القصر البلدي» وما يحتويه من وثائق وأرشيف. ومجدداً، أُعيد بناؤه وتوسيعه وتجميله في فترة زمنية قياسية لم تتخطَّ الثلاث سنوات.
ووفق تصاميم المهندسين المعماريين تيودور بالو وإدوار ديبيرت، أعطي «الهيبة» التي ما زالت تضرب الناظر إليه بقبّته المرتفعة والتماثيل التي تزين واجهته المطلة على ساحته الرحبة. ولقد عمد المهندسان إلى تجسيد تاريخ فرنسا من خلال الشخصيات المنحوتة حيث يقع النظر على تماثيل كبار العلماء والفنانين والصناعيين ورجال الدولة. أما الساحة، فقد عرفت أسماء متعاقبة من «الساحة السفلى» إلى «ساحة بيت العامية» (إبان الثور ة الفرنسية) إلى ساحة التحرير واليوم ساحة «القصر البلدي».
منصب رئيس البلدية
يعود الفضل في إيجاد منصب رئيس بلدية باريس (العمدة) للثورة الفرنسية التي اندلعت في عام 1789. إذ قبل ذلك، كانت الشؤون اليومية للعاصمة تُدار من قِبل موظفين تختارهم اتحادات المهن بموافقة السلطات. وكان أول رئيس بلدية اختاره الباريسيون، عقب الثورة مباشرة، هو سيلفان بايي، عالم الرياضيات والفلكيات الذي جرى ضمه إلى الأكاديمية الفرنسية في العام 1783.
بعدها، حصلت في تاريخ العاصمة، انقطاعات في منصب رئيس البلدية وتغير التنظيم الإداري في السنوات الـ200 المنقضية الكثير من المرات. وبلغ عدد رؤساء البلدية المتعاقبين 14 رئيساً بعضهم لعب دوراً أساسياً في تاريخ العاصمة، منهم إتيان أراغو الذي أعطى اسمه لجادة معروفة. وتحمل أراغو ذو النزعة الجمهورية مسؤولية المنصب في ظروف بالغة الشدة عقب هزيمة جيوش الإمبراطور نابوليون الثالث أمام الجحافل البروسية في معركة سيدان. وكان أراغو من كبار معارضيه، وانتخب (أو عيّن) مع بدء حصار العاصمة. وأعقبه في المنصب نفسه سياسي لا يقل شهرة هو جول فيري، المعروف فرنسياً بأنه المسؤول الذي فرض التعليم الإلزامي وفي الخارج أنه كان من أنصار التوسّع الاستعماري والمروّجين لاحتلال الجزائر.
وفي العقود الأخيرة، برز دور رئيس بلدية العاصمة مع تعديل القوانين الناظمة. وللعلم، تقسم باريس إدارياً إلى 20 دائرة، وكل دائرة لها رئيس بلديتها ومسوؤلياته محصورة بدائرته، بينما تغطي مسؤولية رئيس المجلس البلدي لباريس العاصمة بكليتها. وخلال العقود الأربعة الأخيرة، لم تعرف باريس سوى أربعة رؤساء بلدية هم: جاك شيراك (1977 ــ 1995)، وجان تيبيري (1995 ــ 2001)، وبرتراند دولانويه (2001 ــ 2014)، ورئيسة البلدية الحالية آن هيدالغو. غير أن اسم شيراك هو الأبرز بالنظر لشخصيته ووزنه السياسي، إذ كان نائباً برلمانياً ووزيراً ورئيساً للحزب الديغولي «التجمع من أجل الجمهورية» ورئيس حكومة سابق (في عهد الرئيس فاليري جيسكار ديستان). يضاف إلى ذلك الفترة الزمنية الطويلة التي أمضاها في «القصر البلدي» ومن ثم انتقاله منه إلى قصر الإليزيه. وحينذاك، اعتبر المنصب ممراً ممكناً إلى رئاسة الجمهورية بالنظر لما يوفّره لصاحبه من حضور على المستويين المحلي والدولي.
لكن خليفتي شيراك اليميني تيبيري والاشتراكي دولانويه ما كانت لهما طموحات رئاسية. فهل سيكون هذا حال آن هيدالغو أم أنها ستسير على درب شيراك؟ الجواب في المقبل من الأيام.