وبعد أن كانت القصيدة المغناة تمثل وجاهة لشاعرها وتجعل له صدر البيوتات الثقافية، تراجع كثيرون عن نظمها، فيما أسماه كثيرون تعالٍ من الشعراء الشباب عن نظمها، وكأنهم في برجهم العاجي يرون في نظمها تواضعًا لا يليق بهم، متجاهلين أن قصائد كبار شعراء العالم العربي تحولت إلى أغنيات ما تزال تتردد على الرغم من رحيل أصحابها منذ سنوات طويلة. وتضم قائمة الشعراء الذين تحولت قصائدهم إلى أغنيات عددًا كبيرًا من الشعراء الكبار، مثل أبي فراس الحمداني، وأحمد شوقي، وأحمد رامي، ونزار قباني، ومحمود درويش، والأمير عبدالله الفيصل، وسعوديا وعلى مستوى حتى الشعر المحكي برز كذلك شعراء كبار، مثل الأمير خالد الفيصل، والأمير بدر بن عبدالمحسن، والأمير عبدالله بن مساعد، وطاهر زمخشري، وصالح الشادي، ومساعد الرشيدي، وغيرهم.

وفي وقت لم يجد فيه هؤلاء غضاضة في كتابة القصيدة المغناة، ولم يمنعوا الملحنين والمطربين من تلحينها وأدائها بل شجعوهم عليها، لوحظ تعالٍ من الجيل الحالي من الشعراء الشباب على كتابتها، وهو ما يطرح كثيرًا من التساؤلات عما إن كان هذا التعالي نتيجة رؤيتهم أن القصيدة المغناة لا تضيف أي رصيد لشاعرها الذي لا يليق به أن يكتب قصيدة لتتحول إلى أغنية؟، أم نتيجة لتراجع غير مشجع في مستوى المطربين والملحنين؟، أم لأنهن يرون أن الشعر اليوم لا يفهمه إلا النخبة خصوصًا في زمن تراجع مستوى القراءة كما ونوعًا، وبالتالي فإن الأغاني لن تحقق لهم الانتشار والشهرة. ومن هنا، توجهنا بهذا السؤال إلى عدد من الشعراء والمهتمين الذين تفاوتت إجاباتهم حول هذه القضية.

العزوف ليس تعاليًّا

الشاعر الغنائي، الكاتب، الأكاديمي الدكتور صالح الشادي، الذي لقب بـ«شاعر الوطن» عقب كتابته أوبريت «كفاح أجيال» في مهرجان الجنادرية برعاية خادم الحرمين الشريفين، وأحد أشهر من غنى له الفنانون الكبار أمثال محمد عبده، وعبادي الجوهر، وطلال مداح، وعبدالمجيد عبدالله، وعبدالله رشاد، وعلي عبدالكريم، ورابح صقر، وطلال سلامة، وخالد عبدالرحمن، يرى أن «العزوف عن كتابة الأغنية ليس تعاليًّا، لكنه عدم المعرفة التامة بمكونات نص الأغنية من مذهب وكوبليه ومرجعات وبنائية وزنية، خاصة بكل مقطع، هذا أولاً، أما ثانيا فلا يوجد مردود ذي قيمة من وراء كتابة نص الأغنية، إذ إن الفنانين لدينا يأخذون ولا يعطون، وبأرقام فلكية، عكس ما يحدث في كل العالم نتيجة لانتشار صناع الأغنية من المقتدرين ماديًا، إذن أصبح الأمر حكرًا على من يدفع في غالب الأمر».

ويضيف «الشعر هو الشعر، في أي صورة خرج، لكن الإشكالية في الهدف والفكرة والغرض من الكتابة، وهنا مربط الفرس». ملحن يفقه ومطرب مثقف الإعلامي سلامة الزيد، مدير عام إذاعات جدة سابقًا، وأحد أبرز الوجوه الثقافية، يقول ‏في رمزيته المعتادة، وباختصار: «حتى أعطيك قصيدة مغناة راقية، أعطني ملحنًا مثل رياض السنباطي يفقه معنى ما يقرأ من قصائد الفصحى، ويستوعب الصورة الشعرية بتفاصيلها ليفجر براكين الموسيقى لحنًا يتوافق مع المعنى، ‏وأعطني مطربًا مثقفًا يمتلك صوتًا طربيًا شجيًا يستوعب أبعاد النص الفصيح ليتمكن من أدائه بروحه وشجنه، وأعطني جمهورًا قادرًا على استقبال عمل كهذا والاحتفاء به وترديده بعشق وسلطنة، وإن سألتني من يمثل اليوم مثل هذا الأنموذج، أجبتك كاظم الساهر وحيدًا».

غياب الفرصة

الشاعر فارس الروضان، وأحد الشعراء الذين تغنوا بنادي الهلال كثيرًا، حتى لُقب بشاعر الهلال، يقول في هذا الصدد: «من وجهة نظري، لا أعتقد أن الشعراء الشباب يتعالون على كتابة الأغنية، ولكني أرى أن عدم تواجدهم في هذا الجانب يحمل شقين: الشق الأول: يتعلق بالفرصة المفقودة لهؤلاء الشعراء من قبل صناع الفن، فاليوم تلاشت طرق التسويق إلا في حدود ضيقة، ولهذا فإن إنتاج الأغنية بالغالب أصبح يتحمله الشاعر، ولأن كلفة إنتاج الأغنية وصل إلى أرقام فلكية أصبحت الأغنية محصورة على الأكثر مالاً من الشعراء وليس الأجود، ما تسبب في تدني مستوى الأغنية وغياب الشعراء المبدعين، والحل لهذا الشق أن تتبنى شركات الإنتاج الفني الشعراء المبدعين، وتقدمهم للساحة دون تكاليف، وحماية الأغنية من الضياع التام.

الشق الثاني: أن شعر الأغنية يختلف كليًّا عن شعر النظم وبقية الفروع الشعرية، فكتابة الشعر الغنائي فن مستقل بذاته يعتمد على عناصر مختلفة عن غيره، ومن أهمها سهولة العبارة وقصرها، ووجود ما يسمى باللزمة أو «الأفيه» الذي يصبح عنوانًا للعمل الغنائي مما يجعله يردد في كل حين، وليس كل شاعر يمكن أن يكون شاعرًا غنائيًا، لكنه قد يكون مميزًا لو تدرب حقيقة على هذا الفن».

ويضيف «بالنهاية أكرر ما قلته سابقًا، أتمنى أن يتم احتواء الشعراء المميزين عبر شركات إنتاج ليرتقي الفن، ويعود تميز الأغنية السعودية بعد أن فقدت من بريقها كثيرًا لغياب الكلمة الجميلة».

تدهور العلاقة الشخصية

يقول الشاعر فهد الشهراني : «باختصار، أعتقد أن لدى الشعراء الشباب الآن، خصوصًا أولئك الذين فرضوا حضورهم على الساحة الشعبية من خلال تواجدهم بما يملكونه من نتاج متميز واحتضان واستضافة لهم في البرامج التليفزيونية، قصائد أفضل من تلك التي تقال في الأغاني الموجودة حاليًا، والتي نستمع إليها ليل نهار، لكن ما ينقصهم هو العلاقة الشخصية الجيدة مع الملحن والمغني المتعاون مع الفنان، حيث إن أغلب الفنانين والملحنين في برج عاجي، ولا يلتفتون إلى إبداعات الشباب في قصائدهم التي توازي قصائد كبار الشعراء».

الحقيقي يفشل

يفصل الشاعر حامد مناور، رأيه في هذه القضية بقوله: «لا أعتقد أنه تعالٍ، بقدر ما هو إيمان بأن الشعر الحقيقي غالبًا يفشل مع الأغنية، وكيف أن أغلب الأغاني لا ينجح منها إلا النصوص السطحية الخالية من الشعر، الشعر الحقيقي».

ويضيف «الركن الرئيس في الأغنية هو اللحن، ومن ثم الأداء، فالكلمات، والتي تأتي في الأخير، وهذا عكس ما كان حاضرًا في الأغنية سابقًا حيث كان يحرص الفنان على اختيار كلمات راقية نخبوية».

ويتابع «المشكلة الكبيرة لدينا تكمن في الذائقة، وهذا لا يعني أنه لم يعد هناك أغان بكلمات جيدة، ولكنها قليلة مقارنة بما كان عليه الحال في السابق».

عجز واقتصار

يقول الشاعر منصور الرويلي: «ابتعاد الشعراء الحاليين ليس تعاليًا، وإنما ليس هناك من يستطيع كتابة القصيدة المغناة حاليًا، فهي لها روادها أمثال بدر بن عبدالمحسن، وفائق عبدالجليل، وعبداللطيف البناي، أما كثير مما يكتب اليوم فكله على المسحوب، والأغنية لها كوبليهات وألحان وغير ذلك، وبالتالي لا أرى بعد تلك الأسماء من يستطيع كتابتها الآن». موضوع مؤرق

شغل تراجع الشعراء والقصائد المغناة بال كثير من المهتمين، فبعد أن أسهم الشعراء في صناعة الأغنية الراقية منذ الموشحات الأندلسية وحتى الآن، يرى هؤلاء المهتمون أن دور الشعراء تراجع كثيرًا، خاصة شعر الفصحى، دون أن يكون الأمر أحسن حالًا بمراحل بالنسبة لشعراء المحكي، وانعكس هذا ترديا على مستوى الكلمات ومضامين الأغنيات. ويعتقد كثير من المهتمين أن الأغنية العربية عموما تدهورت، وبالتالي تدهورت كل أركانها، وعزف المطربون عن غناء الشعر الفصيح، ورأوا أن لموسيقى الشعر التي تعتمد على ركائز ثلاث هي الوزن والموسيقى والتآلف أهمية كبيرة، لا يستطيع كثير من المطربين المعاصرين التعامل معها، عكس الحال سابقًا، حين كان المطربون الكبار يتقنون ويتذوقون اللغة العربية والنحو مع أصول الموسيقى.

الثقافة والفن

لأهمية موضوع القصيدة المغناة، فقد كانت عنوان ندوة ثقافية أقامتها جامعة الطائف في سوق عكاظ في دورته الـ13 عام 2019، وفيها عزا المتحدثون في الندوة التي حملت عنوان «القصيدة العربية المُغناة»، تراجع القصيدة العربية المُغناة في الوقت الراهن إلى أسباب عدة، تمثلت في أوضاع الثقافة، والفن، وتدني اللغة العربية بصفة عامة.

وفي تلك الندوة بين الدكتور محمد مصطفى أبو شوارب، تصدر الأوزان التامة قائمة البحور الأكثر استعمالاً في القصائد المغناة في كتب الأدب، إذ أن 29% من القصائد المغناة في الشعر لكتاب الأغاني هي من «بحر الطويل»، فيما كان بحر «الكامل» قد اشتمل على 15% فقط من القصائدة المٌغناة، ثم بحر الخفيف بنسبة 11%، وأخيرًا 8% لبحر البسيط.

وأفاد الدكتور أبو شوارب أن النسبة الإجمالية للبحور التامة والطويلة للقصائد العربية المغناة في كتاب الأغاني بلغت 87%، في مقابل 13% فقط للبحور القصيرة، وبهذا تكون الموسيقى ركنًا أصيلاً من أركان النص الشعري.

وفي الندوة ذاتها أشار الدكتور منصور الحارثي، إلى أن القصيدة الفصحى في الأغنية العربية لم تغب، وقال: «هي لم تغب، ولكن خضعت للعرض والطلب، لأسباب تردي الفن، والثقافة، وأصبحت سلعة الشاعر الفصيح سلعة غير مطلوبة»، مبينًا أن فنانين كبارا على مستوى الوطن العربي لا يستطيعون أن يغنوا بالفصحى، والسبب يعود إلى تدني اللغة العربية عند هؤلاء، خصوصًا أنهم جزء من المجتمع، مما أبعد الفن والموسيقى عن الشعر الفصيح.

الذوق على قدر الشعر

تناول الدكتور أحمد فرحات، في كتابه «القصيدة المغناة في الشعر العربي ـ دراسة فنية أسلوبية» موضوع القصائد المغناة، مبينًا أن «اختيار القصائد العظيمة لم يكن أمرًا هينًا، بل أدرك المغنون أن الشعر العظيم يلزم له قدر عظيم أيضًا من الذوق العظيم، وإذا فسد الذوق فسد الاختيار، وفسدت الأغنية وأظهرت عوار المؤدي والشاعر والملحن جميعا، إذ ليست كل قصيدة صالحة للغناء، فما بالك بقصيدة منحولة، سقيمة المعنى، رديئة الاختيار، قبيحة الألفاظ، سيئة الأداء، عقيمة الفائدة، غريزية المشاعر، عليلة المتن، واهية السند، خبيثة الهوى، قليلة الحياء».

مسببات لهجرة الشعراء للقصائد المغناة

ـ عدم معرفة الشعراء بمكونات نص الأغنية من مذهب وكوبليه ومرجعات وبنائية وزنية.

ـ لا يوجد مردود ذي قيمة من وراء كتابة نص الأغنية.

ـ غياب الملحنين الذين يجيدون قراءة قصائد الفصحى.

ـ ندرة المطرب المثقف الذي يستوعب أبعاد النص الفصيح.

ـ افتقاد الشعراء الشباب للدعم وانحصار القصائد المغناة بالشعراء الأكثر مالًا وليس جودة.

ـ شعر الأغنية يختلف كليًّا عن شعر النظم وبقية الفروع الشعرية.

ـ أغلب الفنانين والملحنين في برج عاجي، ولا يلتفتون إلى إبداعات الشباب في قصائدهم.

ـ الشعر الحقيقي غالبًا ما يفشل مع الأغنية.

ـ ليس هناك من يستطيع كتابة القصيدة المغناة حاليًا.

ـ المطربون الحاليون لا يتقنون ويتذوقون اللغة العربية والنحو مع أصول الموسيقى.

ـ تردي الفن، والثقافة، جعل سلعة الشاعر الفصيح غير مطلوبة.

ـ فساد الذوق وفساد الاختيار أفسد الأغنية.